أوليفر ساكس: رحلة في عالم الدماغ والإنسان
يُعتبر أوليفر ساكس واحدًا من أشهر علماء الأعصاب في القرن العشرين، وقد ترك إرثًا علميًا وإنسانيًا بالغ الأثر. وُلد في لندن عام 1933، ونشأ في بيئة أكاديمية، حيث كانت دراساته العليا في الطب تركز على الدماغ البشري، هذا العضو الذي يعتبره ساكس “أعظم وأغرب ظاهرة في الطبيعة”. من خلال مؤلفاته وأبحاثه، قدم ساكس للقارئ نظرة معمقة على كيفية تأثير الحالات العصبية والدماغية على حياة الإنسان، وكيفية ارتباط هذه الحالات بالشخصية والعواطف والأفكار.
نشأته وتعليمه: من لندن إلى نيويورك
وُلد أوليفر ساكس في 9 يوليو 1933، في عائلة يهودية تعيش في لندن. كان والده طبيبًا، مما دفعه منذ سن مبكرة للتعرف على الأطباء وعالم الطب. كان ساكس طفلًا هادئًا وحساسًا، واهتم بمختلف جوانب العلم منذ صغره، لكنه في الوقت ذاته كان يواجه تحدياته الخاصة، حيث كان يعاني من بعض المشاكل الاجتماعية في المدرسة، التي كانت تنعكس في شعوره بالانفصال عن الآخرين.
عندما بلغ سن الشباب، قرر أوليفر ساكس متابعة دراسته في الطب، ودرس في جامعة أكسفورد في إنجلترا، حيث حصل على شهادته في الطب. بعد ذلك، انتقل إلى الولايات المتحدة ليكمل دراسته في الطب العصبي في جامعة كاليفورنيا. لقد كانت هذه الفترة من حياته مليئة بالتحديات، حيث حاول أن يفهم تعقيدات الدماغ البشري ويعطي تفسيرًا علميًا لظواهره العميقة. فشغفه بدماغ الإنسان دفعه للبحث في حالة غريبة في الدماغ، ليبدأ رحلة طويلة في دراسة الحالات العصبية النادرة والغريبة.
البحث والابتكار: الضوء على حالات عصبية نادرة
أصبح ساكس مشهورًا بكتاباته التي تناولت الحالات العصبية النادرة والتي لم تكن مفهومة جيدًا في ذلك الوقت. قام بتوثيق تجربته في التعامل مع مرضى مصابين بحالات عصبية غير عادية، وذلك في إطار بحث علمي معقد وفي نفس الوقت بشري عميق. كانت إحدى أشهر كتبه، “Awakenings” (الصحوات)، التي نشرت عام 1973، عن مرضى مصابين بمرض “الإنفلونزا الدماغية” (Encephalitis Lethargica) الذين أصيبوا بحالة من الغيبوبة لمدة طويلة، وتم إيقاظهم باستخدام أدوية مثل L-dopa، وهي مادة تستخدم لعلاج مرض باركنسون.
كان الكتاب بمثابة اكتشاف غير مسبوق لحالة مرضية معقدة، وعُرضت لاحقًا في فيلم سينمائي عام 1990 بطولة روبن ويليامز. لكن تأثير الكتاب لم يكن فقط في طرح حلول طبية، بل أيضًا في تسليط الضوء على الإنسانية الكامنة وراء المرضى، وكيف أن التفاعل الإنساني والتواصل يمكن أن يكون لهما تأثير إيجابي على العلاج الطبي.
ولكن رغم هذا النجاح، لم يكن هذا الكتاب الوحيد في مسيرة ساكس العلمية. فقد استمر في البحث في مجالات مختلفة من الطب العصبي، وجاءت كتاباته التالية لتتناول حالات أخرى مثل اضطرابات الإحساس، والذاكرة، والحواس المختلفة. من أشهر مؤلفاته الأخرى “The Man Who Mistook His Wife for a Hat” (الرجل الذي أخطأ زوجته قبعة)، الذي يُعد بمثابة دراسة في حالات اختلال الدماغ غير التقليدية، وكيفية تأثير ذلك على الشخصيات والوعي.
الغرابة والإبداع: الدماغ كعالم لا نهائي
لقد كان ساكس من العلماء الذين يميلون إلى الجمع بين العلم والفن، فقد تناول الدماغ البشري باعتباره “عالمًا غريبًا”، حيث أشار في العديد من كتاباته إلى أن الدماغ يمتلك قدرة غير محدودة على الإبداع والابتكار، حتى في الحالات المرضية. ورغم أن الكثير من زملائه في المجال الطبي كانوا يركزون على الأبعاد الجسدية والفيزيائية للأمراض العصبية، إلا أن ساكس كان دائمًا ما يلفت الانتباه إلى البُعد النفسي والإنساني لهذه الحالات.
كان ساكس يدرك تمامًا أن مرضى الدماغ ليسوا مجرد “حالات طبية” قابلة للعلاج، بل هم أفراد لديهم شخصيات وذكريات ورغبات، ومهمته كانت تقديم العلاج الذي يعزز من هذه الأبعاد الإنسانية. وهو ما جعله يختلف عن الكثير من الأطباء والعلماء في مجاله، الذين كانوا يميلون إلى الفصل بين الطب والعواطف.
تأثيره على الطب: التفاعل بين العلم والإنسانية
كان أوليفر ساكس ينظر إلى الطب العصبي ليس فقط كعلم قائم على تشخيص الأمراض وعلاجها، بل كفن يرتبط بالتفاعل الإنساني. فقد تحدث في العديد من محاضراته وكتبه عن أهمية الانتباه للجوانب الإنسانية للمريض، وكيف يمكن للتواصل الشخصي أن يكون له دور كبير في علاج المرضى. وهذا الأمر يبرز بشكل خاص في تعامله مع مرضى يعانون من فقدان الذاكرة أو الاضطرابات العصبية النادرة، حيث كان يرى أن العلاج النفسي والاجتماعي يجب أن يكون جزءًا مكملًا للعلاج الطبي.
كانت أعماله، مثل “The Mind’s Eye” (عين العقل)، تسلط الضوء على كيفية تأثير حالات مثل العمى والعمى الوهمي على الطريقة التي يدرك بها الإنسان العالم من حوله. كما تناول أيضًا العلاقة بين العقل والدماغ، وكيفية تشكل الوعي.
مساهماته الثقافية والفكرية: الطب في الأدب
بالإضافة إلى عمله في الطب، أصبح أوليفر ساكس أيضًا مؤلفًا غزير الإنتاج، حيث قدم العديد من الكتب التي تعتبر من أفضل الأعمال الأدبية في المجال العلمي. كانت كتبه تتمتع بقدرة فريدة على المزج بين الأبحاث العلمية والمفاهيم الأدبية، مما جعلها جذابة للقراء غير المتخصصين أيضًا. كما أن أسلوبه السهل والعميق في الكتابة جعل علم الأعصاب أكثر سهولة، مما ساهم في تعميق الفهم العام حول الدماغ وصحته.
كان ساكس أيضًا مهتمًا بالآثار النفسية للمرض، وقد عبر عن ذلك في العديد من أعماله، مشيرًا إلى أن التأثير النفسي على الشخص المريض يمكن أن يكون أعظم بكثير من التأثير الجسدي في بعض الأحيان. ولعل هذا هو السبب الذي جعل كتبه تحظى بشعبية واسعة لدى عامة الناس، لأنه كان يتعامل مع المرضى كأفراد يتمتعون بقيم إنسانية.
التكريم والجوائز: إرث علمي وإنساني
حصل أوليفر ساكس على العديد من الجوائز والتمويلا لدراساته وأبحاثه العلمية، لكنه كان دومًا ما يؤكد أن شغفه يكمن في استخدام الطب ليس فقط للتشخيص والعلاج، بل أيضًا لفهم أعماق الإنسانية في المرضى. في عام 2015، تم تكريمه على مساهماته العلمية والثقافية من قبل الجمعية الأمريكية لعلم الأعصاب، وكان قد شغل أيضًا منصب أستاذ في كلية الطب في جامعة نيويورك.
توفي أوليفر ساكس في 30 أغسطس 2015 بعد معركة مع السرطان، لكن إرثه العلمي والإنساني لا يزال حيًا من خلال كتبه وأبحاثه التي أثرت في ملايين الأشخاص حول العالم.
